[right][b]نهضت بورشيا من أرجوحتها و هي تتمتم لوصيفتها و تقول : " لو كان بوسعي أن أستقبل هذا الخاطب الخامس بفرحة توازي بهجتي بتوديع الأربعة السابقين ، إذن لسرني قدومه حتى لو كانت له أخلاق القديسين . إن ملامحه قبيحة كالشياطين .
و مضت إلى القصر تتبعها وصيفتها و بقيت الأرجوحة يلاعبها النسيم في تلك الحديقة الغنّاء .
كان بسانيو قد أوصلته الحاجة إلى أن يطرق باب شايلوك ، و كان هذا هو المرابي اليهودي التقليدي في البندقية . إن الرجل الذي لا يفهم إلا من باب جمع الثروات و خزنها . و في هذا السبيل لم تكن الأخلاق و الكرامة و عزة النفس إلا أبواباً و مصايد يوقع زبائنه فيها و يجني من ورائها الثروات . حتى ابنته الوحيدة " جسيكا " لم يكن يرى فيها أكثر من سلعة يمكن أن تأتيه بفائدة مادية . هذا فضلاً عن خساسته في علاقته الأبوية بها و تقتيره في الصرف عليها ، ثم نكرانه لعواطفها جملة و تفصيلاً .
لم يكن بسانيو غافلاً عن أخلاق هذا المسخ ، لكن حاجته الملحة و حبه لبورشيا جعلاه يصر و يلح على أنطونيو للحضور معه إلى حانوت المرابي اليهودي من أجل القرض . غير أن تردد أنطونيو في الحضور في باديء الأمر كان بسبب من نظرته إلى شايلوك ، و كان يرى فيه صعلوكاً مرابياً معدوم الضمير ، مثله كمثل حشرة قذرة . و قد انطلق شعور احتقاره لشايلوك بالنظر للربا الفاحش الذي كان يتقاضاه اليهودي لقاء القرض الذي يعطيه إلى المدين . و لم يكن هذا اليهودي يتعفف عن هدم حياة الناس في سبيل تحصيل أرباحه الظالمة .
و كان يرى العدل من هذا الميزان : فيكون عادلاً بقدر ما يساعده ذلك في تحقيق الأرباح الفاحشة ، و ظالماً إذا رأى أن الرحمة قد تؤدي إلى فقدانه قسماً من أرباحه .
و لم يكن أنطونيو يخفي احتقاره و بغضه لشايلوك في المجتمع ، فكثيراً ما كان يوجه له كلمات الإزدراء و الإهانة أمام الناس ، و خاصة أمام مجلس التجار في النقابة . و لكنه في سبيل تحقيق آمال صديقه بسانيو غض النظر عن آرائه و رافق بسانيو إلى حانوت شايلوك ، و عند المدخل قال :
أرى أن تدخل أنت يا بسانيو أولاً ، فإن استعطت اقناعه بالمبلغ الذي تحتاجه فأكون أنا بعد برهة قادماً لأوقع صك الكفالة . أما إذا حصل و رفض إعطاءك القرض فأكون أنا قد وفرت على نفسي دخولي وكر هذا المرابي الحقير . إذهب أنت الآن ، و بعد برهة يسيرة سوف استأذن الدخول عليكما .
دخل بسانيو فناء الحانوت الواسع ، و كان حانوت شايلوك هذا في أصله داراً لمدين مغلوب على أمره اغتصبها منه شايلوك بعد عجزه عن إيفاء ديونه . و كانت كما يبدو عليها ، داراً جميلة يسكنها قوم سعداء ، فها هي الممرات الجانبية كلها قائمة على أعمدة قوطية من المرمر . و في وسط الدار كانت ما تزال بقايا حديقة رائعة رصفت ممراتها بالفسيفساء الملون ، و في وسطها بركة ماء ذات هندسة عربية هي أشبه يتلك التي في قصور أمراء بني الأحمر في الأندلس . و في وسط البركة كانت تماثيل نساء عاريات و أسود لابد أن الماء كان يخرج من أفواهها إلى وسط البركة في السابق . أما الآن فقد تحولت إلى مقبرة لأوراق الخريف . و بعد أربعة أدراج كان مدخل الدار الرحبة . كان الباب الكبير مشرعاً ، فتأمل بسانيو نقوشه الجميلة . و طالت وقفته هناك . و كان من عادة شايلوك أن يجلس دوماً مقابل الباب الخارجي ليرى كل داخل و خارج فقال :
من هنا ؟ و وقع نظره على بسانيو ، فقال :
آه ، هذا أنت يا بسانيو المبذر !لو كان لي ابن على شاكلتك لا يعتبر للمال قيمة لتبرأت منه في الحال . و بعد أن قام إلى باب غرفته و استقبل بسانيو أردف :
كنت أعلم أنك لابد أن تقصدني يوماً و أنا أرقب المئات من الدوقيات ، بل الألوف منها ، تحرق على موائد الشراب . تفضل ادخل لنستمع إلى حاجتك .
دخل بسانيو إلى فناء غرفة شايلوك متقززاً من حقارة ذلك المخلوق العجيب . و كانت القاعة واسعة تكومت على جنباتها حاجيات مرهونة و خزائن ذات أقفال ، فيها يضع اليهودي الرهونات الثمينة و تطلع بسانيو إلى شايلوك فرأى وجهاً تهدلت لحيته على جانبي وجنتيه فانقسمت عند ذقنه إلى فلقتين رأس كل منهما مدبب مثل فرع حربة . و في وسط ذلك الوجه كان هناك فم تراكبت أسنانه ، أما عيناه فقد غارتا لتختفيا وراء حاجبين كثيفين.
و قطع شايلوك على بسانيو مشاعره هذه حين أشار إلى أكوام الرهونات قائلاً :
أترى كل هذا ؟ ماذا أفعل ! لقد أعطيت أصحابها من مالي دراهم صحيحة . أتدري يا بسانيو ماذا تنفعني هذه الحاجات بل هذه الدار كلها ؟! ما حاجتي بها كلها ! يكفيني ركن صغير في ساحة القديس بطرس ! إنما ماذا أفعل ؟ هذا عملي و منه أعيش .
لم ينطق بسانيو ببنت شفة ، بل راح يفكر في هذا اليهودي الذي لا يهتم لمآسي أصحاب تلك الرهونات و كل اهتمامه منصب على دراهم قليلة أعطاها لأصحابها ، مع أنه في الوقت المحدد سوف يبيعها بأضعاف القيم التي ارتهنها بها .
و هتف شايلوك بمكر :
هيا استعجل ، قل لي عن حاجتك ! ليس شايلوك أحد جلسائك أو ندمائك لتزوره بلا هدف . و أجاب بسانيو و في نفسه امتعاض مرير :
ثلاثة آلاف دوقية ، لثلاثة أشهر .. و سيكون أنطونيو ضامناً و ملزماً بأدائها .
أفرج شايلوك عن ضحكة صفراء خبيثة لدى سماعه اسم أنطونيو ، و حدث نفسه قائلاً : " لقد وقعت يا أنطونيو ، يا ألد عدو لي في البندقية . سترى بأم عينيك هذا الصعلوك – كما اعتدت تسميتي – و ما يمكن أن يفعله بك عندما تسنح له الفرصة " .
و عندما لاحظ بسانيو شروده أردف قائلاً :
في استطاعتك مساعدتي إذا أردت . فهل ستدخل السرور إلى نفسي ؟ هل أستطيع أن أعرف جوابك ؟
ثلاثة آلاف دوقية و ثلاثة أشهر و أنطونيو ضامناً ؟؟
و هل في ذلك شيء لا يوحي بالثقة !
أنطونيو ضامن جيد ، لكن أمواله موضع حدس و تخمين . إن له سفينة ذهبت في تجارة إلى طرابلس ، و أخرى إلى الهند . و فضلاً عن ذلك فقد علمت في نقابة التجار أن له سفينة ثالثة في مياه المكسيك ، و رابعة تتجه صوب انجلترا ، كما سمعت عن سفن أخرى له متفرقة في البحار .
نعم ، و هل من ضرر في ذلك ؟
كما تعلم يا سيد بسانيو ، ليست السفن إلا خشباً ، و ما الملاحون إلا بشراً . و هناك جرذان في البر و جرذا ن في البحر ، و لصوص في البر و لصوص في البحر . هذا علاوة على مخاطر الموج و الرياح و الصخور التي قد تظهر بغير إذن من القبطان . و مع هذا سأرضى أن أتحدث إلى أنطونيو في أمر الثلاثة آلاف هذه ، و إقراضها لثلاثة أشهر .
و في هذه اللحظة طرق أنطونيو الباب بمقبض عصاه الفضي ، فصاح شايلوك بصوت رفيع و قال :
هيا ، ادخل إلى " مغارة اللصوص " . هكذا شاء مسيحكم أن ينعت العمل الشريف . ستجدني أرحب بك رغماً عن كل شيء . دخل أنطونيو بخطوات بطيئة . فحاول بسانيو تقديمه إلى شايلوك و لكن شايلوك ، قال :
هو غني عن التعريف أيها السيد بسانيو . يكفيني أمر واحد فيه يجعلني أتذكره ليل نهار . بل كثيراً ما تؤرقني صورته ، و لا أنام . إنه هو الذي يقرض المال دون فائض :
و سكت شايلوك . و أخذ يحدث نفسه قائلاً : " أيها الخنزير أنطونيو ، أنت سبب هبوط الفائدة فضلاً عن أنك تبغض كل يهودي . لن أنيى احتقارك لي في مجمع التجار و قذفك إياي بكلمات نابية و وصفك لأموالي التي جمعتها بالربا . لعنة الله علي و على كل يهودي إذا غفرت لك .
هتف بسانيو : أوتسمعني يا شايلوك ؟
نعم إني أحسب ما لدي من مال حاضر . و أحسب إذا لم تخنني ذاكرتي أنني لا أستطيع تقديم الثلاثة آلاف كاملة الآن . و لكن هذا ليس أمراً ذا بال .. إن " توبال " سيمدني بالمال و هو من أثرياء أصدقائي .
و رد أنطونيو : شايلوك ، ليس من دأبي أن أقرض المال أو أقترضه بربح و آخذ الربا أو أعطيه ، لكنني سأتجاوز عن المألوف هذه المرة لأحقق مطالب صديقي بسانيو .
حسناً يا أنطونيو ، هات الصك و دعني أفكر . و لكن إستمع إلي : أحسبك قلت إنك لا تقترض و لا تقرض بفائدة ..
هز أنطونيو رأسه مؤيداً فأردف شايلوك يقول :
يا سيد أنطونيو ! كم من مرة قابلتني في نقابة التجارفسخرت مني بسبب أمال و كيفية استخدامي لها !! كنت تراني صابراً على ذلك أتذكر مرة ركلتني و بصقت على لحيتي فيها !! و لكن لا بأس فشعارنا الصبر . من أجل ذلك سأقرضك المال ؟
و على هذا رد أنطونيو بكبرياء و قال :
و أظن أني سأنعتك بذات الأوصاف مرة أخرى . بل سوف أبصق عليك كما فعلت من قبل و أركلك أيضاً . فإذا شئت يا شايلوك أن تقرضني المال فلا تفعل ذلك كما لو كنت صديقاً لك ، بل افعله كما لو كنت عدواً . و إذا قصرت في إرجاعه كان لك أن تقتص مني بغير حياء .
كنت أريد أن أنسى ما لطختني به من مهانة ، و أفوز برضاك ، بل بحدبك كما أصدقائك . و هذه فرصة لي . و كنت أنوي أن أسدد لك مطالبك العاجلة دون أن أتقاضى على مالي فائدة . و مع ذلك فأنت لا تصغي إلي . و سأبرهن لك على صدق أقوالي و عاطفتي ، هيا إلى محرر الصكوك . و سوف أطلب إليك على سبيل التسلية و المزاح أن تكتب أنك إذا لم توف في يوم كذا و في مكان كذا بالمبالغ الواضحة في العقد كان الجزاء رطلاً من لحمك ، آخذه من الجزء الذي أختاره من بدنك ، رطلاً بالضبط .