أسقط أنطونيو دمعة من عينيه ثم دار على عقبيه و مشى ينقل الخطى كما لو كان في جنازة . إنه لم يكن يهدف مكاناً معيناً ، بل كان يتجه إلى حيث تسوقه قدماه . لقد فكر أن يمر على أحد أصدقاءه ليتبادل معه بعض الحديث ، و لكن القلق جعله يعدل عن ذلك . فقد خشى أن يكون حزنه سبب غير مباشر لإزعاج ذاك الصديق . و هكذا أخذ يضرب على أرصفة البندقية بلا هدف .
و في أحد الأزقة القريبة من ساحة " القديس بطرس " كان " بسانيو " أحد أقرباء أنطونيو ، مجتمعاً إلى صديقه " لورنزو " . و كان لورنزو هذا شاباً وسيماً كله خفة روح . كذلك كان صديقه جراتيانو ، ، حتى لقد أطلق عليه " الرجل المرح الذي لا يمكنه إلا أن يجعل من أقدس الأمور نكتة يتسلى بها " .
بين تلك الجماعة كان الحديث يدور عن الحياة و الحب و الثروة . كان لورنزو يشكو حبه من " جيسكا " ابنة شايلوك اليهودي . و هو تاجر قذر يقف كالجدار العالي دون زواج ابنته اليهودية من الشاب المسيحي .
أما جراتيانو فكان يثرثر ما شاء عن مغامراته و أصدقاءه . و كان كلا الرجلين يعلم أن تسعة أعشار رواياته كذب في كذب ، لكن جمال أسلوب جراتيانو كان يجعلهما يسران لحديثه مهما قال . أما بسانيو الشاب النبيل فقد ظل صامتاً كالتمثال لا تحركه أحاديث زميليه . ثم نهض إلى ردائه ، فلبسه و هو يقول :
أعذراني أيها الصديقان . إن علي أن أقابل أنطزنيو لأمر هام يخصني .
فرد جراتيانو :
لقد ذكرتني . كنت أود أن أدعو أنطونيو على العشاء هذا المساء .
و قال لورنزو :
لنذهب سوياً و نفتش عنه ، حتى إذا لقيناه مضيت أنا و جراتيانو و تركاكما و شأنكما ، فأنا في شوق إلى رؤياه .
و خرج الأصدقاء الثلاثة يفتشون عن أنطونيو . و لم يطل بهم الوقت حتى وجدوه . كان يطعم الحمام في ساحة القديس بطرس ، كأنه يعزي نفسه بمشاهدة أسراب الحمام اللطيف و هي تحط و تطير بطمأنينة و حبور .
ز تنبه جراتيانو إلى قلق أنطونيو فهتف : لست تبدو في صحة طيبة يا سيد أنطونيو . إنك تغرق نفسك أكثر من اللازم بأمور الدنيا .يا صاحبي! إن الذين يشترون الدنيا بكثير من الاهنمام و الحذر هم الذين يخسرونها سلفاً .
و بعد أن رحب أنطونيو بأصدقائه الذين هبطوا عليه من السماء ، و رد قائلاً :
الدنيا يا عزيزي جراتيانو مسرح كبير لكل منا دور فيه . و يبدو أن دوري أن أكون حزيناً . ألا توافقني على ذلك يا جراتيانو ؟
بلى . أنت حر . أما أنا فلي دور المهرج الضحوك . اإنني أفضل أن تحرق الخمرة كبدي أو تتمزق رئتي ضحكاً على أن يقتلني الهم . غنني أحب الضحك .
ثم التفت إلى لورنزو و أردف :
هيا يا لورنزو الطيب . ها هو صديقك السيد أنطونيو . لندعهما الآن وحيدين لأسرارهما التي يتوقف عليها مصير العالم . أرجوك ألا تنسى موعد العشاء .
فقال لورنزو ضاحكاً :
أتري يا سيد أنطونيو ! لو استمرت علاقتي بجراتيانو عامين آخرين لصار من الصعب علي عند ذاك تمييز صوتي من كثرة الصمت الذي يفرضه علي جراتيانو .
و ضحك الجميع . و غاب لورنزو و جراتيانو في قناطر الساحة ثم ابتلعتهما منعطفاتها ، تاركين بسانيو مع أنطونيو بين أسراب الحمام .