كان قرص الشمس ينزلق ببطء في الأفق الأرجواني تاركاً وراءه نهراً أحمر كأنه الذهب على أمواج البحر الرجراجة و ساكباً على مدينة البندقية الجميلة روعة شديدة .
و كان الناس يتحركون على أرصفة المدينة كالأشباح ، ها هم يرتدون أزيائهم المزركشة ، و ها هي الجندول تشق مياه الأقنية بصمت جميل . إنه صمت لا يعكره سوى صوت انزياح الماء تحت ضربات المجازيف .
و ها هو " أنطونيو " التاجر الذائع الصيت ، الوافر الثراء ، غارق في تأملاته . إنه ينقل نظره و هو حزين ، بين سحر المدينة التي أغرق البحر شوارعها ، و بين شمس المغيب الحمراء التي تغرق رويداً رويداً في الأفق . أتراها كانت مشدودة للإستحمام في البحر !!!
لم يكن أنطونيو يدرك لكآبته سبباً مباشراً . هناك هاجس مجهول قد انتزع البهجة من نفسه و رماه في دنيا من الهم و لم يكن أنطونيو على ذلك الطراز من التجار الذين يسيطر عليهم حب الربح حتى يشغلهم عن مباهج دنياهم . نعم ، إنه غني ، و له مجموعة من السفن تجوب موانئ الدنيا من طرابلس إلى الاسكندرية إلى مياه الهند شرقاً ..و لكن كل هذا لا ينال من فكره عادة شيئاً يذكر . إن أسئلة كثيرة تتدفق عليه حتى تملأ رأسه فهو يسأل : " على أي شئ صيغ حزني هذا ؟ و على أي شئ يولد ؟ لا أدري كيف هاجمني حتى سلبني عقلي رغماً عني ؟ ها أنا أكاد أقع من فوق هذه القنطرة . "
و إلى الغرب من القنطرة التى كان أنطونيو يقف إلى جانبها كانت هناك حديقة وهبها الدوق " حاكم المدينة " لشعبه ليتمتع بمناظرها البديعة ، و يرتفع بأخلاقه و ذوقه إلى حيث يحسن تذوق الجمال .
في تلك الأثناء كان سالارينو التاجر يتمشى مع صديقه سولانيو عبر ممرات تلك الحديقة . لكنهما لم يكونا يهتمان في قليل أو كثير بمناظر أشجار الحديقة الجميلة و لا أزهارها الناعمة . بل لم يكونا يهتمان حتى بتماثيلها التي نحتها أعظم نحاتي إيطاليا بكاملها . لقد كان حديثهما يدور حول التجارة و السفن و البضائع و الأرباح و الخسائر . و كثيراًً ما كنت تسمع تنهدات الحسرة بين وقت و آخر ، حتى ليحسب من يسمعها أن هناك كارثة حلت بهذين الرجلين . و نادراً ما كان يسمع صوت ضحكاتهما ، لأن من عادات التجار الأصيلين كما يقول سالارينو : " أن يندب الواحد منهم حظه لئللا يطمع فيه عامة الناس و فقراؤهم . "
كان الاثنان يسيران مثل جنديين في دورية . لقد انتظمت ضربات أقدامهما بغير وعي منهما و كانت حركتهما واحدة . كان سولانيو ينصت إلى كل كلمة يقولها زميله و لا يرد على أي منها بغير هزة من رأسه . و حين وصلا إلى جانب تمثال الإلهة فينوس العارية ، التفت سالارينو إلى رفيقه و قال :
- أتدري يا عزيزي ، أن حرصي على بضائعي يسلبني كل دقيقة من وقتي !! ستضحك إذا قلت لك إني في كثير من الليالي أنتفض من فراشي كالمجنون و أفتح شباك غرفتي لأتحرى الرياح . و يكاد القلق يقتلني عندما أصور لنفسي أن سفينتي الحبيبة " آندرو " قد أصيبت بمكروه !لا تعرف كم يصعب علي أن أتخيل ثياب الحرير الكشميرية التي تحملها السفينة تمزقها الأمواج ، و التوابل الهندية تعبث بها الريح فوق الرمال ؟ أليس أسهل على المرء أن ينتزع قلبه من صدره من أن تضيع كنوزه يا سولانيو ؟!
كان سولانيو من النوع الذي لا يأسف على أي شيء لا يمس ثروته ، و لم يكن في الدنيا شيء يدعه يتحمس له سوى الأكل الدسم و الربح . و قد كانت هيئته توحي تماماً بذلك . فقد كان له رأس مثل كرة المدفع الأسباني و كرش مثل برميل نبيذ فرنسي و كان يهز رأسه مؤيداً أقوال سالارينو دون أي تفكير في الإجابة .
و سارا بصمت حتى بلغا بوابة الحديقة . و بلا وعي منهما ساقتهما أقدامهما إلى رصيف القناة الكبرى و هما يضربان الأرض بأكعابهما ، منشغلين بالحديث الذي ساقه سالارينو و كأنه واقع في القريب العاجل . و أخذا كالأبلهين يمعنان النظر في السفن التي تتهادى في مياه البحر الأدرياتيك الهادئة . فوقع نظرهما على أنطونيو و هو ما يزال متكئاً على سور القنطرة الكبرى سابحاً في دنيا خياله الحزين .
نظر سالارينو إلى صديقه و ابتسم ، فابتسم زميله لابتسامته و كأنه يقول : " لقد صدقت فيما تفوهت من هواجس ، فهذا أنطونيو يكاد الهم يقتله ! "
و اقترب الرجلان من أنطونيو على عجل ، ثم جمدا عنده و كأنهما تمثالان من النحاس . و ود سولانيو ممازحة صديقه أنطونيو فقال :
- لابد أن يكون عقلك كله يتخبط هناك في البحر ؟ و أكمل سولانيو بسخرية مغلفة يقول :
- صدقني يا سيدي لو أني جازفت بمالي كما فعلت أنت لما اختلفت حالي عن حالك .
و هكذا أخذا يغرقان انطونيو بسيل من الثرثرات تدور حول التجارة و سوء الطالع . لكن أنطونيو قطع ذلك و هو يلتفت إليهما و في عينيه حزن عميق ، و يقول :
- ثقا أن تجارتي ليست هي سبب حزني ، فأنا عادة لا أسوق بضائعي في مركب واحد . و أنتما تعلمان ذلك .
دهش الرجلان لهذا الجواب غير المتوقع و تبادلا نظرات الاستغراب . و حدثت أحدهما نفسه أن يقول : " و هل في الدنيا موجب للحزن غير هذا بالنسبة للتاجر !! " .. لكنهما بقيا صامتين برهة غير وجيزة إلى أن قطعها سالارينو قائلاً :
- إذن لابد أن يكون الحب هذه المرة قد هاجمك أو انتصر . أنت حزين و قد سمعت أن الحب يعدم صاحبه البهجة . أنا لم أجربه حنى الآن و لكن يمكنني أن أوافق على مثل هذه الآراء و خاصة أني أراك أمامي على حال يرثى لها .
فهز أنطونيو رأسه علامة النفي القاطع لما قاله سالارينو فهتف :
- و لست محباً أيضاً ؟! إذن دعني أقول بصراحة إنك من هواة الحزن . ما أغرب أطوارك أيها العزيز !!
رد سولانيو مبدياً تأثره و إن كانت لم تفصح تقاطيع وجهه المنتفخ عن شيء و قال :
- كم بودي لو أستطيع أن أجعلك تبدو مرحاً ! أنا مستعد لأن أدفع ثمن ذلك من مالي الخاص ...
و تبادل الثلاثة الحديث في مواضيع كثيرة كانت في معظمها من النوع المألوف لدى سكان البندقية ، و لم يفارق الحزن أنطونيو ، و لاحظ سالارينو ذلك فقال :
أرى أن نتركك لوحدتك . فهي الدواء الشافي للأحزان . فأنا عندما أراجع حساباتي لا يهدأ بالي إلا إذا كنت وحيداً ، أحسب بنفسي كل شيء .
ودع أنطونيو صديقيه و عاد إلى بحر تأملاته ، و ها هي تمر أمامه زوارق الجندول فيها شباب فينيسيا و صباياها يتبادلون أحاديث الهناء العذبة و لا يهتمون لغير واقعهم . إن كل الذي من حولهم وهم ، و لا حقيقة سوى الشباب الذين هم فيه ... فعليهم أن يتذوقوه . أليست قنوات مدينتهم ساحرة حقاً .